مجتمعنا الثقافي

الفلسفات التربوية الجزء الثاني

الفلسفات التربوية الجزء الثاني

الفلسفات التربوية الجزء الثاني

المناهج السعودية

الفلسفات التربوية الجزء الثاني

نشوب الصراع بين الفلسفات التربوية الثلاث ـ المثالية والواقعية والبراجماتيةـ
نشب الصراع بين الفلسفات التربوية الثلاث وتبارى أنصارها في تسفيه مفاهيم الفلسفات المقابلة، فلقد شن جون ديوي هجوماً شديداً على كل من الفلسفة المثالية والفلسفة الواقعية واعتبر أن كل منهما فلسفة قديمة تقدم تربية تقليدية تعمل على أساس روتيني وتقدم برامج وانحدارات من الماضي لا تسهم في تنمية الخبرة ولا تمثل أي مظهر للخبرة، كذلك انتقد الفلسفة المثالية والواقعية لأنهما يفصلان بين الخبرة العقلية والخبرة الجسدية وأضاف أن هذه الثنائية هي أسوأ شرور التربية التقليدية، ومن أقواله في هذا الشأن : (إن أصحاب هذا الفهم حين يعملون يمارسون ضغطاً على الجسم بعدم الحركة والنشاط فيطلبون السكون وعدم الحركة ويعاقبون الطالب إذا قام بأية حركة لأنها ـ حسب رأيهم ـ مفسدة للخبرة العقلية دون أن يتبينوا أن التوتر العصبي والتعب البدني اللذين يصيبان كلا من العلم والطالب هو الثمرة الشاذة لمثل هذا الفهم).
ثم أضاف : (إن وقيه من الخبرة خير من طن من التلقين النظري، فالخبرة تكسب الأفكار النظرية أهميتها وحيويتها، والخبرة مهما كانت متواضعة تولد الأفكار النظرية، ولكن الأفكار النظرية المنفصلة عن الخبرة لا يمكن أن تفهم وأنما تتحول إلى مجموعة من الكلام المنمق الذي يجعل التفكير مستحيلاً).
ولقد شن ممثلو الفلسفة المثالية هجوماً مماتلا على البراجماتية وجون ديوي، ومن اشهر ممثلي المثالية هيرمان هارل هورن الذي اشتبك مع ديوي نفسه، واشهر كتبه في هذا المجال المثالية في التربية الذي نشره عام 1910 وكتاب فلسفة التربية الذي اصدره عام 1927.
وشارك في هذه المعركة ممثلو الواقعية وهاجموا البراجماتية ومن اشهر من قاموا بمهاجمتها فريدريك بريد الذي حاول في كتابه أظهار تفوق الواقعية على البراجماتية ومن ممثلي الفلسفة الواقعية الفرد نورث وايتهد صاحب كتاب أهداف التربية الذي اصدره عام 1929 ولقد عمل في بريطانيا وأمريكا وشارك في الجدل الدائر حول الفلسفات التربوية.

● تعدد الفلسفات التربوية وتناقضها.
أدى هذا الصراع التربوي حول فلسفة التربية إلى ميلاد عدد أخر من مدارس الفلسفة التربوية، فقد انجبت الفلسفة البراجماتية وليدين آخرين هما الفلسفة التقدمية والفلسفة التجديدية.
وتعود أصول الفلسفة التقدمية للتربية إلى أيام المربي الروماني كوينتليان (35 – 95 ق.م) الذي انتقد أسلوب اليونان وقسوتها على الطف ودعا إلى مراعاة قدراته ومساعدته على النمو، ثم جاء الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو فدعا في كتابه (إميل) إلى تمركز التربية حول الطفل.
ولكن خلال الركود الاقتصادي الذي حدث في الثلاثينات من القرن العشرين وحينما كانت الفلسفة التقدمية في قمة رواجها ضاقت مجموعة من فلاسفة التقدمية بالركود القاتل وبخطى الإصلاح فدعوا إلى إعادة بناء النظر في التربية التقدمية وتقليل التركيز على رغبات الطفل وإعطاء انتباه اكبر لمصالح المجتمع، أو التقليل على التركيو على نمو الفرد وإعطاء انتباه اكبر لإصلاح المجتمع ولقد اصبح هؤلاء نواة الفلسفة التجديدية.
وترى الفلسفة التجديدية أن نموذج المجتمع المثالي يجب أن محور التربية وتنظيم برامجها وأهدافها وبرامجها، وأن على المدارس أن تعمل على إعداد مواطن المستقبل لمجتمع المستقبل الذي يجري بناؤه لا على المجتمع القائم.
ومن ممثلي الفلسفة التجديدية ثيودور براملد وتتركز أراءه في أن الفلسفة التجديدية هي فلسفة الأزمات وأنها علاج الثقافة أو المجتمع اللذين يمران بأزمة وهي جوهر المجتمع الديمقراطي.
أما تطبيقاتها التربوية فقد ركزت على إحلال النشاطات التعاونية بدل المنافسات الفردية بين الطلبة وأشاعه العمل الجماعي بدل القيادة الفردية، وان يكون الإنجاز هو القوة الدافعة للمستقبل.
كذلك أفرزت الفلسفة المثالية وليداً جديداً هو فلسفة الديمومة. وهي كسابقتها من المدارس المحافظة وتمقت كثيراً من اتجاهات العالم المعاصر مثل : نتائج الثورة الصناعية، والثورة العلمية، وقيم العلمانية، وقيم البروليتاريا الماركسية، والثورة التكنولوجية والإلكترونية. وهي كفلسفة تربوية تركز على الماضي وسموه وتؤكد على ديمومة الكون وعدم تغير الطبيعة الإنسانية والحقيقة والمعرفة والتفضيلية والجمال. فالمرغوب هو الثابت، ومن ممثلي هذه المدرسة روبرت هوتشنز.
والتربية في فلسفة الديمومة محورها طبيعة الإنسان الثابتة وهي القدرة على التفكير وإدراك المثاليات، وهو ينفرد بذلك عن بقية المخلوقات، لذلك فالتربية عملية ثابتة تستهدف أخراج الإنسان العاقل الحكيم، والمنهاج في هذه الفلسفة مشتق من مفاهيم اليونان القدماء ومفاهيم التربية الحرة اللاتينية.
كذلك أفرزت الفلسفة الواقعية وليداً أخر هو فلسفة الأسس الجوهرية، وهذه الفلسفة ـ في أمريكا ـ تركز على موضوعات أساسية انطلاقاً من هدفين رئيسين : الأول أن وظيفة التربية نقل التراث الثقافي. الثاني التدريب العقلي. ويضيف البعض إلى هذين الهدفين : الصحة الجسدية والصحة النفسية والكفاءة المهنية وممارسة الهوايات، كذلك تطلب إلى المدرسة أن تركز على قيم المجتمع السائدة وقيم قادة الأمة السياسيين والاجتماعيين الأموات والأحياء ومفكري الحضارة الغربية.

● الانتقادات التي وجهت إلى المدارس الفلسفية .. الانتقادات التي وجهت إلى فلسفة التربية المثالية.
1- أنها غير ديمقراطية تبالغ في دور تقدير الكبار وفي المحافظة والتقليد.
2- تعيق تقدم الفرد والمجتمع.
3- التناقض بين الفكر والتطبيق.
4- المبالغة في مدح التراث الثقافي والاجتماعي وتجعل له صفة الدوام والإلزام.
5- تركز على النخبة في المجتمع وتهمل الآخرين.

● الانتقادات التي وجهت إلى الفلسفة الواقعية.
1- تأثر مبادئها بالآراء الشخصية.
2- تركيزها على إعداد نخبة من جماعة المثقفين للقيادة في المؤسسات المختلفة وعدم تقديم برنامج ديمقراطي.
3- ثبات المفاهيم وعدم مراعاة عوامل التطور.
4- تركيزها على التربية العقلية دون التربية الجسدية وإهمال حاجات المتعلم ومتطلبات البيئة.
5- انتسابها للماضي وعدم ملاءمتها للحاضر.

● الانتقادات التي وجهت للفلسفة البراجماتية وتشمل :
الانتقادات التي وجهت للفلسفة التقدمية.
1- التربية التقدمية البراجماتية تربية بدون أهداف، فقد أعطت اهتماما اكثر مما يجب لقضايا التكيف وتشجيع الناشئة على الجري وراء رغباتهم ووراء النشاطات الاجتماعية بينما أهملت الموضوعات الأكاديمية والعقلية والدراسات الجادة، ولقد وصف بعض النقاد المدرسة الحديثة القائمة على البراجماتية على أنها سيرك لعب اكثر من كونها معهد أكاديمي.
2- التربية الحديثة أعطت اهتماما اكبر مما يجب لإعداد المعلم على أساليب التدريس وطرق التدريس وطرائق التعلم بينما لم تعط العناية اللازمة لإعداده في المادة الدراسية التي يعلمها.
3- أعطت التربية الحديثة مكانة عالية لتمهين الشهادات بحيث هيأت للحاصل على شهادة المواد التربوية فرصا افضل للحصول على العمل من أولئك الذين يحصلون على شهادات في المواد العلمية.
4- أن التركيز على التكيف الاجتماعي والمواد التربوية أدى إلى نقص في التفوق العلمي.
5- حين جعلت البراجماتية الحقيقة من صنع الإنسان هونت من منزلة الحقيقة وجعلتها أمر ليس بذي بال ولا يحتاج إلى جهد كبير.
6- حين حصرت البراجماتية والتقدمية الحقيقة في الخبرة فشلت في تقديم شيء عن الحقيقة الكلية التي هي مدار اهتمام الإنسان في الماضي والحاضر.
7- نزلت البراجماتية بمفهوم العقل من مستوى التفكير والعقلانية إلى مستوى الذكاء لتدبير أمور المعاش.
8- نزلت البراجماتية بالقيم الأخلاقية والجمالية وجعلتها نسبية موقوته وغير صادقة.
9- ركزت البراجماتية على حاضر الإنسان مع أن التاريخ يعلم أشياء كثيرة.
10- التركيز الزائد على الطفل وتقليل دور المعلم واعتباره مجرد موجه مغفلة بذلك نضج المعلم ومعارفه وحكمته.
11- البراجماتية تتواطأ مع رجال الصناعة والاقتصاد وبناء النظم التربوية بشكل يتطابق مع أهداف المصانع ومراكز العمل ورأس المال وترويض الإنسان للتكيف مع نظم هذه الشركات.

● الانتقادات التي وجهت إلى الفلسفة التجديدية :
1- إن أعادة البناء الاجتماعي أمر غير واقعي، والصورة التي تقدمها الفلسفة التجديدية صورة خيالية.
2- إهمال اثر القوى الخارجية كالقوى السياسية وزعمها على أن التربية وحدها قادرة على إعادة تركيب المجتمع.
3- تتناقض هذه المدرسة مع نفسها، ففي الوقت الذي تؤكد على حرية الفرد والديمقراطية فهي تعطي المجتمع هيمنة تحد من هذه الحرية والديمقراطية.
4- إن الفلسفة التجديدية ليست فلسفة تربوية وهي اقرب إلى الفلسفة الاجتماعية التي تتعلق بالإصلاح الاجتماعي وليس العمل التربوي.

● الانتقادات التي وجهت إلى الفلسفة الإسلامية :
إن الانتقادات التي تم توجيهها إلى هذه الفلسفة كانت بالأغلب توجه إلى القائم بتطبيق هذه الفلسفة وليس الفلسفة الإسلامية بحد ذاتها، أي كان الانتقاد يوجه للذين يسيئون تطبيق الفلسفة الإسلامية.
كما وجه لها انتقاد أخر من قبل الجماعات المادية الواقعية حيث أن الفلسفة الإسلامية تحتوي جانب من الغيبيات المجهولة التي تترك غموض بسبب عدم تفسيره.

● ملاحظات حول فلسفات التربية الحديثة :
يمكن القول أن فلسفات التربية الحديثة في الغرب تعاني من نقص في تنظيم الحاجات الإنسانية وتحقيق التكامل بين الحاجات المعنوية والحاجات الجسدية.
فالمثالية انبرت عن الحاجات الجسدية واجتزت الحاجات العليا.
أما الفلسفة الواقعية فقد انبرت عن الحاجات المعنوية واكتفت بالحاجات المادية.
أما الفلسفة البراجماتية فتذبذبت بين النوعين من الحاجات حسب تقلب الزمان والمكان.
لذلك انتهت هذه الفلسفات إلى التركيز على بقاء النوع البشري وهملت العمل على رقي النوع البشري، وصارت لا تمد الإنسان في التربية بصورة واضحة عن الغاية التي خلق لأجلها ولا الكيفية التي حدث بها هذا الخلق والى أين سينتهي مصيره.
كما أن المفهوم الذي قدمته عن علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقات الإنسان بالكون والمحيط هو مفهوم غائم مضطرب متناقض يتعرض للتبديل والنقص من آن لآخر، لذلك هبطت الفلسفات عن الهدفين الأساسيين : بقاء النوع البشري ورقيه، وانحسرت غاياتها وأهدافها في تسليح أعراق بشرية معينة لتعيش على حساب أعراق أخرى (البقاء للأقوى).
كذلك انعكس النقص في الغايات والأهداف على الوسائل سواء أكانت وسائل المعرفة أم وسائل التطبيق المعرفي والتربوي, فاقتصرت مناهج المعرفة المنبثقة عن الفلسفات التربوية الحديثة على العقل والحواس وأهملت الوحي. وغياب الوحي الصحيح من مناهج المعرفة المذكورة أدى إلى مبالغة هذه المناهج في دور العقل واستعماله في غير ميدانه والتصور أنها من خلال العقل وحده ستخترق الوجود المحسوس إلى عالم الغيب كله وتكشف عن مصدره وخلقه ومصيره، ثم تستثمر هذه المعرفة لبقاء النوع البشري ورقيه. وحينما فشلت في تحقيق ذلك انحسرت في قوقعة العالم المادي المحسوس وأقامت تطبيقاتها التربوية طبقا لهذه الدائرة الضيقة. ولكن هذه التطبيقات فشلت ولم تستطع حتى الين تحقيق الهدف الأدنى هدف بقاء النوع البشري والحفاظ عليه.
كذلك اقتصرت المعارف والعلوم المتولدة من خلال وسيلة العقل والحواس وحدهما على الميادين المادية المحسوسة دون أدنى معرفة عن قضايا المنشأ والمصير. ولقد انعكست هذه الجزئية في المعرفة والتربية على ميدان الحياة المادية نفسها حيث لم تقدم فلسفات التربية الحديثة تصوراً واضحاً عن علاقة الإنسان بالحياة بل قدمت تصور مبعثه دوافع الإنسان وغرائزه وخلاصة هذا التصور ان الحياة الراقية هي معرض استهلاك ونتيجة لهذا النقص لم تستطع أن تبلور القيم اللازمة لتقييم ثمار المعرفة وتركتها لتتشكل في حدود رغبات الأفراد وحاجاتهم المادية كذلك فصارت القيم كمناديل الورق التي تستعمل لا زالت القاذورات العالقة بالأيدي والثياب ثم إلقاءها في سلة المهملات.

● ملاحظات حول فلسفة التربية الإسلامية :
يمكن القول أن فلسفة التربية الإسلامية كما استخرجناها نظريا من أصول الكتاب والسنة تعمل على بقاء النوع البشري من خلال أحكام علاقات إنسان التربية الإسلامية بالخالق والكون والإنسان والحياة والآخرة، ومن خلال تصورها الأشمل ل الحاجات الإنسانية الجسدية والمعنوية ثم تكامل هذه الحاجات المعنوية هدف رقي هذا النوع.
كذلك حددت فلسفة التربية الإسلامية الوسائل المعرفية الموصلة إلى تطوير الأدوات اللازمة لتحقيق الغايات والأهداف المشار إليها في الفقرة السابقة.
ولقد تمركزت هذه الوسائل حول تظافر كل من الوحي والعقل والحواس للوصول إلى المعرفة الصحيحة بالعلاقات المذكورة وتحويلها إلى تطبيقات وممارسات تؤدي إلى تحقيق الأهداف المذكورة وتقييمها وتطويرها كلما دعت الحاجة لذلك بتأثير عوامل أربعة هي :
● الأول : عامل عقائدي هو تحديد الصلة القائمة بين الخالق المربي وبين الإنسان المخلوق.
● الثاني : عامل اجتماعي وهو بلورة العلاقة وأنماط السلوك في الدائرة الإنسانية التي ينتمي إليها إنسان التربية الإسلامية وهي دائرة شملت جميع أفراد النوع الإنساني.
● الثالث : عامل مكاني وهو أسلوب العيش على الرقعة المكانية وهي رقعة شملت الكرة الأرضية كلها والكون المحيط.
● الرابع : عامل زماني وهو مراعاة البعد الزماني لعمر الإنسان وهو بعد يبدأ في الدنيا ويمتد إلى الأخرة عبر مستقبل لا يتناهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ المراجع :
ماجد عرسان الكيلاني، فلسفة التربية الإسلامية، دبي : دار القلم، 2002.
محمد قطب، لا اله الا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة.
غوستان غاردير، عالم صوفي، ترجمة حافظ الجمالي، دمشق : دار طلاس، 1996.
عبدالكريم أبو خشانة، مدخل إلى الفلسفة 2002.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock