مفهوم فلسفة النحو
يُعرف علم النحو أنّه العلم الذي يبحث في أحوال الكلام بناءً وإعرابًا، وحركات أواخر الكلمات وكل ما يطرأ عليها من تغييرات، وقد نشأ هذا العلم لحفظ القرآن الكريم من اللحن الواقع في قراءته، بعد اتّساع الدولة الإسلاميّة ودخول العجم في الإسلام، وسُمّي بهذا الاسم لأنّ المتكلم ينحو به عن الخطأ في الكلام وينحو به نهج العرب في الكلام تركيبًا وإفرادًا، وقد ورد أن علي بن أبي طالب -رضي الله- عنه أشار على أبي الأسود الدؤلي أن يضع علم النحو، بعد أن علّمه الفرق بين الاسم والفعل والفاعل والمفعول والإضافة، والحركة الإعرابيّة التي تحملها الكلمة، وقال له علي: انحُ هذا النحوَ يا أبا الأسود.
فلسفة النحو
تُعرف فلسفة النحو بأنّها المنهج الذي يفسّر الظواهر النحويّة؛ إمّا بذكر العلل النحويّة، أو بذكرِ الشروط اللازمة لِتَحقُّق الظاهرة النحويّة، إمّا باجتهاد المجتهد إذا لم يجد ما يبتغي ويريد فيما سبق، وموضوع فلسفة النحو هو بيان العلاقات بين كلمات الجملة وبين جمل الفقرة وتفسيرها، فهي تُجيب عن أسباب الإضافة، وأسباب استخدام صفة معينة للكلمة دون أخرى، وتوضّح العلاقة بين المتبوعات وتوابعها وركنَيْ الجملة الاسمية والفعلية، وغير ذلك من مباحث تستوجب التعليل، وإذا كانت البلاغة في فرع المعاني قد استثمرت هذه الفلسفة في بعض مباحثها مثل: التقديم والتأخير، والإظهار والإضمار، والتعريف والتنكير، وعطف الجمل بالواو وعدمه في مبحث “الفصل والوصل”، وطول الجملة وقصرها كما في مبحث “متعلقات الفعل”، والنفي الكافّ والنفي والاستثناء كما في مبحث “القصر”، وأساليب “النداء والنهي والأمر والاستفهام والتمني”، ومبحث “الإنشاء وأغراضه”، حتى صار فرع المعاني علمًا يدرس وفنًّا يُطبَّق.
الدلالة النحوية والوظيفية
الدلالة النحوية
الدلالة النحوية هي الدلالة الناتجة من استخدام الألفاظ أو الأشكال الكلاميّة في الجملة المكتوبة، أو المنطوقة على المستوى التحليليّ أو التركيبي، ومثال ذلك ما ذكره أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: “عَائِدُ المريض في مَخَرفَة الجنةِ حتى يرجع” ، ويمكن تحليل هذه العبارة، كما يأتي:
- عائد: مبتدأ.
- المريض: مضاف إليه.
- في: حرف جر.
- مخرفة: اسم مجرور.
- الجنة: مضاف إليه.
- حتى: حرف نصب.
- يرجع: فعل مضارع.
- وفي مخرفة: شبه جملة في محل رفع خبر المبتدأ عائد.
والدلالة الصرفية فيما سبق في العلاقة التركيبية بين “عائد” و”المريض” هي علاقة الإضافة، وكذلك بين “مخرفة” و “الجنة”، وهناك علاقة التلازم بين الجار والمجرور، وبين المبتدأ والخبر، والعبارة تبدأ باسم الفاعل “عائد” تفيد الدلالة النحوية وهي الابتداء.
فالصيغة الصرفية والوظيفة النحوية لهذه الكلمة تُحدّدان بدقّة حدودَ تلك الكلمة، وكلمة “المريض” تفيد تخصيصَ العِيادة، وكلمة “الجنة” تفيد تخصيص المخرفة بها، وكلمة “في” تفيد الظرفية، و “حتى” تفيد انتهاء الغاية، والفعل “يرجع” مضارع يفيد الاستمرار. وقد كان لهذا الترتيب دور في إيضاح المعنى، ولو تغير الترتيب سوف يضيع المعنى بضياع هذا الترتيب، ولا يمكن فَهْم المعنى الصحيح للعبارة، فلو قيل مثلًا: “الجنة حتى عائد يرجع مخرفة في المريض” لَما فُهِمَ المعنى.
الدلالة الوظيفية
تُعرّف الدلالة الوظيفية أنّها الدلالة التي تحددها البيئة اللغوية التي تحيط بالكلمة، أو العبارة، أو الجملة من حيث الدفع والحركة والانزياح والتقديم والتأخير، وتُستمد أيضًا من السياق الاجتماعي، وسياق الموقف الذي يقال فيه الكلام بجميع عناصره، والمناسبة التي قيل فيها الكلام. وهذا ما يجعل للسياق دورًا كبيرًا في بيان المعنى المراد، وتبين المجمل، وتوضح الغامض، وتخصص العام، قال الزركشي: “السِّيَاقَ مُبَيِّنٌ لِلْمُجْمَلَاتِ مُرَجِّحٌ لِبَعْضِ الْمُحْتَمَلَاتِ وَمُؤَكِّدٌ لِلْوَاضِحَاتِ”، ومثال على الدلالة الوظيفية، قول الشاعر:
كلُّ شيءٍ ما خلا الموت جَلَلُ والفتى يسعى ويُلهيهِ الأملُ
فدلَّ ما تَقَدّمَ قبل جلل أو تأخّر أنّ معناه: كلّ شيء ما خلا الموت سهل، ولا يتوهّم ذو عقل وتمييز أنّ الجَلل ها هنا معناه: عظيم، ومن ذلك أيضا ما ذكره ابن قتيبة في حديث النبي أنه قال: (إن ّالحَياءَ شُعْبةٌ من الإيمان) ، فقد جعل الحياء وهو “غريزة” شعبة من شعب الإيمان وهو “اكتساب”؛ لأن المُسْتحيي يترك بالحياء المعاصي، فصار كالإيمان.
ويُمكن الإشارة إلى أنه في الدلالة الوظيفية تنشأ بين الوحدات اللغوية في الجملة علاقات تزيد في أهميتها عن أهمية الوحدات اللغوية ذاتها، وهنا تكون ميزة الدلالة الوظيفية.
موقف النحاة من فلسفة النحو
كان من آثار تطبيق الفلسفة على النحو ظهور مصطلح العلل فيما عرف بالعلل الثواني والثوالث، والأقيسة لمعرفة الظواهر النحوية وتعليلها، كتعليل نطق الفعل الماضي مبنيًّا، أو المضارع مرفوعًا، أو خبر كان منصوبًا مثلًا، وقد أشار ابن قتيبة النحوي في كتابه “أدب الكاتب” إلى أن هناك مجموعة من العلماء قد شُغِفوا بالفلسفة وأجروها على اللغة والنحو، وقد ذهب الجاحظ إلى أن منهج كثير من النحويين أخذ يجري على نهج الفلاسفة والمناطِقة في القياس والنظر في العلّة، مثل الرماني الذي قال فيه أبو علي الفارسي: “إنْ كان النحو ما يقولُه أبو الحسن الرمّاني فليس معنا شيء، وإن كان النحو ما نقوله فليس معه منه شيء”، بالإضافة إلى الفارابي الذي كان من أوائل مَن درسوا المعنى اللغويّ وعلاقته بالنحو والمنطق، ومنها علاقة الاسم بالحال، وأنواع الأفعال، ودور الأدوات في تكوين الجمل انطلاقًا من المنطق اللغويّ.
ومن النحاة من كان معتدلًا في اتجاهه نحو فلسفة النحو مثل “السيرافي”، إلا أن اتباع النهج الفلسفي في التعليلات النحوية، أثقل النحو، ودفع الكثير بالنأي عنه كـ “ابن جني” الذي حاول الحدّ من الجدل الفلسفي في النحو؛ إذ قال: “إنّا لسنا ندّعى أنّ علل أهل العربية في سَمت العلل الكلاميّة البتّة بل، ندّعى أنّها أقرب إليها من العلل الفقهيّة، وإذا حكّمنا بديهة العقل، وترافعنا إلى الطبيعة والحسّ، فقد وفّينا الصنعة حقّها، وربأنا بها أفرَع مشارفها”.
وكثير من النحويين وجدوا أن فكرة “العامل” التي شكّلت العمود الفقري للنحو، هي صيغة عقليّة فلسفية، ابتعدت عن المنهج الوصفي الذي يجبُ أن يسيرَ فيه النحو ، وهذا ما دفع الكثير من النحاة إلى الدعوة بتيسير النحو وإبعاده عن التأويلات المنطقية والفلسفية، وإلغاء العامل والعلة والقياس المنطقي، حتى أصبحت هذه الدعوات منهجًا للتأليف وسميت عند النحاة المحدثين “بتيسير النحو”.
وتعدّ مقدمة خَلَف الأحمر أولى المؤلفات لتيسير النحو، جاء بعدها “مختصر الكسائي” للكسائي، ثمّ “مختصر في النحو” لأبي محمد يَحيى بن المبارك المعروف باليزيدي، و “مختصر نحو المتعلمين” للجرمي، و “الموجز” لابن السراج، و “الجمل” للزجاجي و “التفاحة” لابن النحاس، وغيرهم كثير، ولعلّ خيرَ دليل على بدايات عملية تيسير النحو قول خلف الأحمر: “ولما رأيتُ النّحويّين وأصحاب العربية قد استعملوا التطويل وكثرة العلل، وأغفَلوا ما يحتاج إليه المتعلم والمتبلّغ في النحو من المختصر والطرف العربية، والمأخذ التي يخفّ على المبتدئ حفظه، ويعمل في عقله، ويحيط به فَهمُه، فأمعنت النظر والفكر في كتاب أؤلفّه وأجمع فيه الأصول والأدوات والعوامل على أصول المبتدئين؛ ليستغني به المتعلّم، فعملت هذه الأوراق”.