المِهَن و الحِرَف في الشريعة الإسلامية
المِهَن والحِرَف في الشريعة الإسلامية
المِهَن والحِرَف في الشريعة الإسلامية
المِهَن والحِرَف في الشريعة الإسلامية
ما إن يتنفس الصباح ويبزغ الفجر إلا وترى الناس يخرجون أفواجاً لكسب الأقوات والمعايش، كل يغدو يأمل من فضل الله وعطائه، يغدون خماصاً، ويروحون بطاناً، ما من أحد منهم إلا وله حاجة، فيسد الله الخلة ويقضي الحاجة بمقتضى علم وحكمة تحار له عقول أولي الألباب، فمن الناس من كتب له رزقه في الأرض يزرعها ومن الناس من جعل الله رزقه في الأنعام يربيها وآخر رزقه من البناء أو الحدادة أو النجارة أو الإدارة أو التعليم فتأمل قول الله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف : 32).
وللعمل منزلة شريفة في الإسلام أيا ما كان ذلك العمل، شرط أن يكون مباح الأصل، نافعا غير ضار وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم بمفهومه الشامل للعمل الدنيوي والأخروي، قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل : 97)، فدلت الآية على إكرام الله تعالى للعاملين من الرجال والنساء عملا صالحا بالسعادة في الدنيا، فعلى المسلم أن يحرص على عمل الصالحات، وأن يخلص نيته لله تعالى في كل عمل صالح لقوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك : 2).
بل قدم القرآن في الذكر من يضرب في الأرض يبتغي الحلال على المجاهدين : (عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) (المزمل : 20).
وجاءت آيات كثيرة في القرآن تدل على أن الأنبياء كانوا يعملون في عدد من الحرف والصناعات اليدوية، فهذا نوح عليه السلام كان يعمل في النجارة وصناعة السفن، قال تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) (هود : 37) ومن ذلك قوله تعالى عن داود عليه السلام : (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ • أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (سبأ : 10 – 11).
لأنه كان يعمل في صنع الدروع وقد قال صلى الله عليه السلام : (كان داود لا يأكل إلا من عمل يده) رواه البخاري.
قال ابن حجر : (والحكمة في تخصيص داود بالذكر أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة، لأنه كان خليفة الله في الأرض، وإنما ابتغى الأكل من طريق أفضل).
وموسى عليه السلام عمل أجيرا عند الرجل الصالح، قال تعالى : (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص : 27) فتزوج ابنته وعمل عنده عشر سنين، وعمل زكريا عليه السلام في النجارة والخشب يقول صلى الله عليه وسلم : (كان زكريا عليه السلام نجارا) رواه مسلم، قال النووي (فيه جواز الصنائع، وأن النجارة لا تسقط المروءة وأنها صنعة فاضلة). وفي المستدرك عن ابن عباس رضي اله عنهما : (كان داود زرادا وكان ادم حراثا وكان نوح نجارا، وكان إدريس خياطا، وكان موسى راعيا عليهم السلام).
وقد حث على العمل النبي صلى الله عليه وسلم فكان خير العاملين، قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته. رواه الترمذي وأحمد وصححه ابن حبان.
وعمل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في رعي الغنم، كما ثبت في صحيح البخاري أنه قال : (ما بعث الله نبيا إلى رعى الغنم)، قالوا : وأنت يا رسول الله ؟ قال : (وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).
ومارس رسولنا صلى اله عليه وسلم التجارة بأموال خديجة رضي الله عنها مضاربة. وبعد الهجرة كان كسبه أفضل كسب، قال : (وجعل رزقي تحت ظل رمحي).
فهؤلاء هم أقطاب النبوة من الرسل، قد شرفوا باحتراف مهنة يعشون على كسبها، قال الحافظ ابن القيم : (إن النبي صلى الله عليه وسلم باع واشترى، وشراؤه أكثر، وآجر واستأجر، وإيجاره أكثر، وضارب وشارك وتوكل، وتوكيله أكثر، وأهدى وأهدي إليه، ووهب واستو هب، واستدان واستعار، وضمن عاما وخاصا، ووقف وشفع، فقبل تارة ورد أخرى، ولم يعتب ولم يغضب، وحلف واستحلف، ومضى في يمينه وكفر أخرى، ومازح وروى ولم يقل إلا حقا، وهو صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة).
ومن تعظيم الله أمر العمل والصناعة باليد ما رواه كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا : يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبريين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء وتفاخرا فهو في سبيل الشيطان) رواه الطبراني وصححه الألباني.
والصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار كانوا يعملون في أمر معاشهم، ولم يكونوا بطالين، بل كانوا أصحاب مهن وحرف، فمنهم اللحام والجزار والبزاز والحداد والخياط والنساج والنجار والحجام، وقد احترف التجارة منهم ناس برا وبحرا، عملا بقوله سبحانه : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص : 77)، وبقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك : 15)، وثبت من حديث المقدام قوله صلى الله عليه وسلم : (ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده) رواه البخاري. قال ابن حجر العسقلاني : (والمراد بالخيرية ما يستلزم العمل باليد من الغنى عن الناس).
والعمل وسيلة لكسب الرزق من كد اليد، وهو خير من سؤال الناس، ومع إجادة المهنة يصون المسلم نفسه عن سؤال الناس، ولا ينبغي لأحد الاستهانة بالعمل أو العمال، فهؤلاء يكسبون رزقهم من عمل أيديهم، وذلك أفضل، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطيب الكسب فقال : (عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) رواه الحاكم.
وقد قرر الإسلام وسائل كثيرة لتهيئة المجتمع للعمل، حتى لا يبقى فيها عاطل إلا من كان عاجزا قد أعاقه المرض أو الشيخوخة، ومن تلك الوسائل تشديد الإسلام في المسألة وتقبيحها وتغليظه على من امتهنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من أحد يسأل مسألة وهو عنها غني إلا جاءت يوم القيامة كدوحا أو خدوشا أو حموشا في وجهه) رواه ابن ماجه. فلا تجوز المسألة إلا في دم مفظع أو غرم موجع أو فقر مدقع، وقد ذكر الفقهاء أن على ولي الأمر أن يؤدب كل صحيح قادر على التكسب يريد أن يعيش عالة على الآخرين.
وحث الإسلام على الاحتراف والعمل ورغب فيه، وصغر من شأن من يتهاون به، أو يحتقره أو يزهد فيه، فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) متفق عليه، وقد قال عمر بن الخطاب : (إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول : له حرفة ؟ فإن قالوا : لا، سقط من عيني)، وقد كان محمد بن سيرين إذا أتاه رجل من العرب قال له : (مالك لا تتجر ؟ كان أبو بكر تاجر قريش).
ومع انقلاب الموازين وتحور المفاهيم ما إن ينطق متكلم عن العمل إلا ويتبادر إلى ذهن السامع الوظائف والأعمال المكتبية، وكأن العمل مقصور عليها منحصر فيها، ما نتج عنه احتقار المهن وازدراء أصحابها، والإعلاء من شأن الوظيفة المكتبية. وهذه النظرة الدونية تمارس على جميع المستويات والطبقات، وتغرس في النفوس منذ الصغر.
والمهن اليدوية أعمال سنية وفروض كفاية مرعية، ولقد حظيت الحرف وأصحابها بعناية الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد فصل في فضائلها والتقى بأربابها، فدعي لهم وأرشدهم، وكان يستشهد بهم في حديثه فيشبه بعض الأعمال الصالحات وأضدادها من الأعمال السيئة بحرف معروفة كحامل المسك ونافخ الكير، وكان يتكلم مع كل صاحب حرفة بما يتعلق بحرفته، ويقول له ما يزيده بها اغتباطا وبآدابها وأحكامها ارتباطا.
وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يرفع من شأن الحرفيين فيجيب دعوتهم، فعن أنس ابن مالك قال : إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس : فذهبت مع رسـول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقرب إليه خبزا من شعير ومرقا فيه دبـاء، قال أنس : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حول القصعة، فلم أزل أحب الدباء بعد ذلك اليوم، متفق عليه. قال النووي : (فيه فوائد، منها إباحة كسب الخياط)، وقال ابن حجر : (فيه دليل أن الخياطة لا تنافي المروءة)، قال العيني : (وفيه جواز أكل الشريف طعـام الخيـاط والصائـغ، وإجابته إلى دعوته) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : جاء رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب، فقال لغلام له قصاب – أي : لحام – : أجعل لي طعاما يكفي خمسة فإني أريد أن أدعوا النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، فإني قد عرفت في وجهه الجوع، فدعاهم، فجاء معهم رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن هذا قد تبعنا، فإن شئت أن تأذن له فأذن له، وإن شئت أن يرجع رجع) فقال : لا، بل قد أذنت له. قال النووي : (أي : يبيع اللحم، وفيه دليل على جواز الجزارة وحل كسبها).
وقد كان صلى الله عليه وسلم يشيد بالمبدعين من أصحاب الصنائع ويوكلهم بالأعمال، فعن قيس بن طلق عن أبيه قال : بنيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة فكان يقول : (قدموا اليمامي من الطين، فإنه من أحسنكم له مسا) رواه ابن حبان، وزاد أحمد : (وأشدكم منكبا).
وقد جاء الإسلام بيان الأحكام المتعلقة بالحرف والصنائع، فنهى عن بعض الحرف لما فيها من المخالفات وأرشد الحرفيين إلى البديل الصحيح. (وإن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا السعي عن العيال).
وقد انتشر فهم خاطئ عند بعض الناس، مفاده أن الجمع بين العلم والحرفة صعب المنال، والصحيح أن لا تعارض بين الأمرين، فالصحابة كان العلم باعثا لهم على العمل، فعن أبي مسعود البدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالصدقة، فما يجد أحدنا شيئا يتصدق به حتى ينطلق إلى السوق، فيحمل على ظهره، فيجئ بالمد فيعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لأعرف اليوم رجلا له مائة ألف ما كان له يومئذ درهم، رواه النسائي.
وعلى نهج العلم والعمل سار جمع غفير من علمائنا وفقهائنا وأدبائنا من سلف هذه الأمة، فانخرط رموزها وعظماؤها في الاحتراف والعمل لكسب الرزق إذ كانوا أصحاب حرف ومهن، وكانوا مع علمهم وزهدهم وتقواهم يسعون في هذه الدنيا سعيا وراء عيشهم ورزقهم وقوت عيالهم، ونسب جمع من عظماء الأمة وعلمائها على المهن فكان منهم : الآجري نسبة إلى عمل الآجر وبيعه، والباقلاني نسبة إلى الباقلا وبيعه، والتوحيدي نسبة إلى بيع التوحيد وهو نوع من التمور، والجصاص نسبة إلى العمل بالجص وتبييض الجدران والحاسب نسبة إلى من يعرف الحساب، والقطعي نسبة إلى بيع قطع الثياب والقفال، والخراز، والخواص، والخباز، والصبان، والقطان، والحذاء، والسمان، والصواف، والزيات والفراء.
إن انتسـاب هؤلاء العلماء الأجلاء للحرف أعطى صبغة العزة لأهل هذه الحرف، حتى لم يكد يوجد في المجتمــع الإسلامي من ينتقص الحرف، أو ينتقص من شأن أصحابها، ولما كان العلماء يعتمدون في كسبهم على عمل اليد أو على قسمهم من أوقاف المسلمين عليهم كانت أقوالهم تصدع بالحق، ولا يبالون في الله لومة لائم، فلم يكونوا يقومون لعرض، ولا يقعدون لغرض، فلم يكن لأهل الدنيا عليهم تأثير من قريب ولا من بعيد، وبهذا يتقرر حقيقة عدم انفصال طلب المعاش عن طلب العلم، والقدوة في ذلك من سير الأنبياء والصالحين والسلف المبارك جلي بما سبق التدليل به.
قال علي بن أبي طالب :
■ وبعد : فهذه إشارات عجلى وتلميحات سريعة إلى قضية تتأكد الحاجة إليها في زمن القعود والبطالة
قد قلت ما قلت، فما أصبت فيه الحق فمن الله تعالى، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه إنه كان غفارا.