وصول درجات الحرارة والرطوبة إلى مستويات تفوق قدرة تحمُّل البشر
تقع أحداث الارتفاع الشديد في درجات الحرارة والرطوبة الآن بما يُعادِل ضِعْف ما كانت عليه قبل 40 عامًا
ومع تزايُد درجات موجات الحرارة وتواترها، اقترحت الأبحاث أن بعض الأماكن سوف تشهد أحداثًا مناخية في العقود المقبلة تصل إلى حدود قدرة التَّحَمُّل البشري لدرجات الحرارة. لكن في الوقت الحالي، تُظهِر دراسة جديدة أن هذا قد حدث بالفعل. وتُشَدِّد النتائج، التي نُشِرَت في مجلة«ساينس أدفانسز» Science Advances، على الحاجة إلى الحدِّ سريعًا من انبعاثات غازات الدفيئة المُسَبِّبة للاحتباس الحراري، ووضع سياسات من شأنها مساعدة الفئات السكانية الأكثر تعرُّضًا للضرر في الحفاظ على درجة حرارة أجسامهم الطبيعية.
تحفِّز د��جات الحرارة المرتفعة الجسم البشري على إفراز العرق، وهو بدوره يُبَرِّد الجلد عند تَبَخُّره. ولكن عند وجود رطوبة شديدة الارتفاع في الجو، فإن عملية التبخر هذه تتباطأ ثم تتوقف في نهايةِ المطاف. وتأتي تلك المرحلة عند الوصول إلى ما يُعرف بدرجة حرارة البصيلة الرطبة –وهو مقياس يجمع بين درجة حرارة الهواء والرطوبة– وهي 35 درجة مئوية (95 درجة فهرنهايت).
وقد أشارت التحليلات السابقة التي استعانت بنماذج مناخية إلى أن أجزاء من منطقة الخليج الفارسي وشبه القارة الهندية وشرق الصين ستشهد موجات حَرٍّ على نحوٍ منتظم، ما سيتسبب في اختراق هذا الحد في وقت لاحق من القرن. ولكن القائمين على هذه الدراسات بحثوا في مناطق واسعة على مدى مناطق زمنية مختلفة ، ووجدوا أن هذا من شأنه حجب ارتفاعات أكثر محلّية في درجات الحرارة وذات مدة أقصر، في ظروف مناخية بالغة القسوة. ولمعرفة ما قد يفتقده الباحثون الآخرون، يقول كولين ريمون، الذي أجرى الدراسة الجديدة عندما كان طالبًا لدرجة الدكتوراة في جامعة كولومبيا: “قررنا أن نفحص الصورة عن قُرب أكثر”.
أجرى ريموند وزملاؤه فحصًا لبيانات درجات الحرارة الواردة من أكثر من 7 آلاف محطة أرصاد جوية حول العالم، بعض هذه البيانات يعود إلى عام 1979. وقد وجدوا أن الحرارة الرطبة الشديدة تحدث الآن بما يُعادِل ضِعف ما كانت عليه الأمور قبل أربعة عقود، وأن شدة هذه الحرارة آخذةٌ في الازدياد. وقد وصلت درجات حرارة البصيلة الرطبة في العديد من الأماكن إلى 31 درجة مئوية فأعلى. وسجَّلَت أماكن عديدة قراءات تتجاوز العلامة الحَرِجة البالغة 35 درجة مئوية. يقول الفاتح الطاهر، عالِم المناخ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والذي لم يشارك في البحث الجديد ولكنه عمل سابقًا حول هذا الموضوع: إن تحديد ذلك النمط “أمر مُهِم؛ لأنه يعتمد على بيانات محطة الأرصاد الجوية، وهي أكثر الأدلة مباشرةً بين تلك المتوافرة لدينا عادةً”.
وقد ظهرت بالفعل هذه الحدود القصوى للحرارة الرطبة، في الأماكن نفسها التي حددتها دراسات النمذجة السابقة بوصفها نقاطًا ساخنةً مستقبلية. وقد كان معظمها مناطق ساحلية قريبة من المسطحات المائية الدافئة، التي يمكن أن تؤمِّن وفرةً في الرطوبة، وأن تتعرَّض لارتفاع درجات الحرارة على البر. وفي مناطق أخرى، لا سيَّما في شبه القارة الهندية، وهي مناطق تستهل فيها الرياح الموسمية دخولها برياح مُحَمَّلة بالرطوبة.
وبالنظر إلى نُدْرَة محطات الرصد الجوي في بعض الأماكن المشمولة بالبحث، مثل أجزاء من دولة باكستان، يقول ريموند، الذي يعمل الآن في مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة ناس��: “من المُحتَمَل أن تكون هناك قيم أعلى تخص البصيلة الرطبة”. وفي العادة تصل درجات الحرارة إلى معدلاتها القصوى لمدة ساعة أو ساعتين فقط، ولذلك فهي لم تبلغ بالضرورة ح��ود قدرة البشر على التحمُّل حتى الآن. ولكن هذه الأحداث ستأخذ في الاستمرار مدةً أطول، وستغطي مناطق أكبر في المستقبل الذي سيكون أكثر دفئًا. وإضافةً إلى ذلك، فحتى درجات حرارة البصيلة الرطبة الأقل من ذلك بكثير يُمكِن أن تكون مُميتة، لا سيَّما في تأثيرها على كبار السن أو أولئك الذين يُعانون من حالات صحية كامنة. يُذكَر أن موجات الحر التاريخية التي قتلت آلاف الأشخاص في معظم أنحاء أوروبا في عام 2003 وفي روسيا عام 2010 لم تسجل درجة حرارة أعلى من 28 درجة مئوية على مقياس درجة حرارة البصيلة الرطبة. ويقول الطاهر: “وقد كانت ظروفًا سيئةً للغاية”.
كشفت الورقة البحثية الجديدة كذلك عن أن أجزاءً من العالم ستشهد ارتفاعًا في درجات الحرارة على نحوٍ منتظم لتصل إلى درجة أعلى من 35 درجة مئوية على مقياس درجات حرارة البصيلة الرطبة، وذلك في حال ارتفع متوسط درجات الحرارة العالمية بمقدار 2.5 درجة مئوية فقط، متجاوزًا المناخ المُسَجَّل في مرحلة ما قبل عصر الصناعة. لقد أصبح العالم أكثر دفئًا بالفعل متجاوزًا ذلك المستوى بنحو درجة مئوية واحدة. وتقول كريستينا دال، كبيرة علماء المناخ في اتحاد العلماء المهتمين، والتي لم تشارك هي الأخرى في الدراسة: “يُمكِن لهذا النوع من الأحداث المناخية أن يصبح منتظمًا مع عدم ارتفاع درجة الحرارة بصورة أكثر بكثير مما شهدناه”.
يُبرِز ذلك التوقع حاجتنا إلى خفض انبعاثات غازات الدفيئة على وجه السرعة، وذلك للحد من الاحترار العالمي قدر الإمكان، الأمر الذي سيحد بدوره من عدد مرات وقوع مثل هذه الأحداث في المستقبل. كما أنه يطرح العديد من الأسئلة، ومنها السياسات التي ستحتاج الحكومات إلى وضعها لحماية الفئات المُعَرَّضة للتضرُّر، مثل إنشاء مراكز لتخفيف درجات الحرارة مخصصة للسكان المسنين أو إرسال تحذيرات قبيل موجات الحر. وقد تحتاج الصناعات التي يكد عمالها في الهواء الطلق –مثل الزراعة والبناء– إلى تغيير جداول مواعيد عملها إلى أوقات يكون فيها الطقس أكثر برودةً خلال اليوم. فحتى في الولايات المتحدة التي تنتشر فيها مُكيِّفات الهواء بوفرة، يقتل ارتفاع الحرارة حاليًّا عددًا أكبر من الأشخاص مقارنةً بالبرودة أو الفيضانات أو الأعاصير.