سلسلة مراحل الحياة من منظور التنمية المهنية – مرحلة النمو
الجزء الثالث: مرحلة النمو (سلسة مراحل الحياة من منظور التنمية المهنية)
تناولنا في المقال السابق الذي يتطرق إلى دورة حياة الانسان من منظور التنمية المهنية والتي تتلخص في خمسة مراحل أساسية حددها عالم النفس دونالد سوبر Donald Super في نظرية “النمو المهني” وهي النمو، الاستكشاف، التأسيس، الاستمرار وأخيرا التقاعد. كما تعرفنا على خصائص كل مرحلة والعوامل المؤثرة بها وعلاقتها بالتنمية والتطوير المهني.
وفي هذا المقال سنتعرف بشكل أوضح على أولى مراحل الحياة وهي مرحلة “النمو” والتي تبدأ من ولادة الطفل حتى سن 15. وتعتبر مرحلة “النمو” هي أهم مرحلة في حياة الفرد المهنية، فهي بمثابة النواة الأساسية التي تؤثر في بناء الشخصية، ويتكون خلالها إدراك الذات الذي يترتب عليه قرارات الفرد واختياراته المهنية في المراحل المقبلة، حيث يرى “سوبر” أن درجة إدراك الذات وتحقيقها يعتبر جوهر عملية النمو المهني.
تكوين الفرد في مرحلة النمو
ففي هذه المرحلة يبدأ الفرد في تكوين مفهوم محدد لذاته منذ اللحظة الأولى من حياته، حيث يبدأ في تجميع معلومات عن نفسه وعن المحيطين به وعن البيئة التي ينتمي إليها، ويبدأ في تكوين الكثير من المشاعر والأحاسيس نتيجة تفاعله وتعامله مع المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه. فمن خلال الخبرات التي يمر بها الطفل اثناء عملية التنشئة الأسرية والاجتماعية والأدوار والأنشطة المختلفة التي يمارسها سواء في الأسرة أو المدرسة، يدرك الطفل ما يحب وما يكره وما يشبع دوافعه ويستثير ميوله ويلفت انتباهه.
ويتطور إدراك الذات نتيجة نمو الفرد العقلي والجسدي والنفسي والتفاعل مع الآخرين والاقتداء بالناجحين. كذلك فإن إدراك الذات المهنية يتطور بنفس الطريقة، فمع بداية سن المراهقة المبكرة (من 8 سنوات إلى 12 سنة) تظهر علامات التفريق والمقارنة بين الذات والآخرين ويلاحظ الفرد أوجه التشابه والاختلافات بينه وبين المحيطين به ويصبح مدركا بصفاته البدنية والعقلية. وبناء على ذلك يبدأ في البحث عن هوية منفردة تشعره بالتميز، ويقتدي بالآخرين الذين يشكلون نموذج هويته، ويتأثر الفرد في هذه المرحلة بالأحكام والآراء التي يتلقاها من الأشخاص ذوي الأهمية في حياته، خاصة والديه ومعلميه وأحيانا أصدقائه، ويؤثر ذلك بشكل كبير في تكوين “إدراك الذات المهنية” الذي يقوده إلى قرارات تتعلق بالتعليم والخطط الدراسية ويؤثر على رؤيته لمهنة المستقبل التي تحقق له الرضا والإشباع.
إدراك الذات المهنية
إن تأثير الآباء في تشكيل إدراك الذات المهنية للأبناء مشكلة تواجهها الكثير من الأسر في عالمنا العربي، حيث يدور الصراع حول الآباء في محاولة أن يؤثروا على أبنائهم بتحديد تخصصاتهم ومستقبلهم ليحققوا أحلامهم من خلال أبناءهم ولا يتركون لهم حرية اختيار طموحاتهم ورغابتهم. كما يتطلع كثير من الآباء إلى تعليم أبناءهم تخصصات معينة كالطب والهندسة حيث يعتقدون بأنه سيكون لهم ولأبنائهم قيمة اجتماعية بغض النظر عن ميول وقدرات أبنائهم. وقد يسبب هذا الصراع اضطراب حقيقي في شخصية الأبناء تجعلهم في حيرة من أمرهم ويصبحون مشتتين بين رغبات الأهل وميولهم الشخصية. لذلك يجب في هذه المرحلة دعم وتقوية إدراك الذات المهنية عن طريق توعية الفرد مبكرا بالمفاهيم الأساسية المتعلقة بإدراك الذات ليتعرف على اهتماماته وقدراته وإمكانياته الفعلية، ومساعدته على تقبل تصوره لذاته وملاءمتها لدوره في عالم العمل أو الوظيفة. وكذلك ينبغي تزويده بمهارات فردية تجعله قادرا على اتخاذ قرارات حياته الخاصة والمهنية دون التأثر بآراء الآخرين. ولابد أن يراعي الآباء الفروق الفردية بين الأبناء وعدم إجبارهم على ميول معينة بل توجيههم نحو الاختيار الأفضل الذي يتوافق مع ميولهم وقدراتهم ويحقق أحلام الفرد وطموحاته. فينبغي أن يحدث اتساق بين إدراك الفرد لذاته واستيعاب الآخرين لتكوين شخصيته وميوله حتى يؤدي هذا إلى تناغم إيجابي لتطور الشخص مهنيا.
تطور الفرد أثناء مرحلة النمو
وقد تأثر “سوبر” بالمجالات النظرية التي تبناها العالم Eli Ginzberg “جينزبرج”، الذي يرى أن الفرد يمر في فترات مختلفة من العمر يتطور من خلالها حتى يستطيع أن يتخذ قرارا مهنيا مناسبا، وأن لميول الفرد وقيمه الشخصية والاجتماعية دورا كبيرا فيها.
ومن ناحية أخرى يرى “جينزبرج” أن العملية التربوية ونوع التعليم يلعبان دورا هاما في عملية الاختيار المهني، ويرى أيضا أن ظروف البيئة الاجتماعية والاقتصادية تلعب دورا آخر فيها. ومرحلة النمو المهني في نظريته تنقسم إلى عدة مراحل. فأول مرحلة تسمى بمرحلة “الخيال”، أو الفترة الحالمة في حياة الطفل، وهى من سن 3 حتى 11 سنة. وتتصف مرحلة الخيال بأنها غير واقعية وأحيانا مثالية جدا ويستخدم الطفل اللعب ليصرح بتفضيلاته المهنية، حيث يتخيل الطفل نفسه في مهنة ما من خلال ممارسته لدوره في الألعاب مثل دور الشرطي والمعلم والطبيب والأب والأم وغيرها من الأدوار الاجتماعية.
ومع قرب نهاية هذه مرحلة الخيال يصبح اللعب ذا توجه، وتبدأ مرحلة “الميل” عند الطفل من سن 11 سنة تقريبا، وفي هذه المرحلة يحدد الطفل ما يحبه وما لا يحبه من المهن، أي ما يميل إليه وما لا يميل إليه. و”الميل” هو شعور عند الفرد يدفعه إلى الاهتمام بصورة مستمرة بموضوع أو مجال معين مصحوبا بارتياح من قبل الفرد. فنلاحظ بعض الطلبة يبرزون في تحصيل مادة دون أخرى مما يعكس ميلا لهذه المادة. وتشكل الميول سمة هامة من سمات الشخصية التي اهتمت بها دراسات ونظريات التنمية المهنية لأنها تساهم بشكل كبير في التكيف التربوي والمهني وتشكل أحد عناصر استعداد الطفل لمهنة معينة.
العوامل المؤثرة على مرحلة النمو
وتتكون الميول في مرحلة النمو متأثرة بعدة عوامل منها العوامل الوراثية، فكل طفل لديه نزعة فطرية موروثة لاستهلاك طاقته وتصريفها بطريقته الخاصة، وعوامل أخرى بيئية وتشمل كل ما يحيط الطفل في منزله ومدرسته ومجتمعه، وميول الآباء، والهوايات التي يمارسها، والكتب التي يقرأها، والبرامج التي يشاهدها، والعادات والتقاليد والطابع الثقافي الذي يميز المجتمع الذي ينتمي إليه. وأهم ما يساهم في تكوين الميول هو مدى توفر فرص التدريب والخبرة العملية لمزاولة ميوله، فالميول هي نتاج الخبرات التي يمر بها الطفل داخل المدرسة أو خارجها من خلال التعلم والممارسة، فسواء كان الميل متصلا بمادة دراسية أو نشاط رياضي أو فني، فيجب أن يمارس الطفل نوع النشاط ويختبره ليحدد إن كان يميل أو لا يميل إليه. ومع تشكيل الميول، يدرك الطفل أن كل نشاط يحتاج لقدرات مختلفة، والقدرات هي المهارات البدنية والعقلية الأساسية التي يحتاجها الفرد للعمل في المهن والنشاطات المختلفة. لذلك يجب في هذه المرحلة مساعدة الطفل في تحديد وتنمية القدرات والمهارات التي تتناسب مع نواحي الأنشطة والمجالات التي يهتم بها ويميل إليها.
دور الأسرة و المدرسة في مرحلة النمو
إن مرحلة النمو هي مرحلة “الوعي المهني”. ولذلك، فإن للأسرة والمدرسة دور رئيسي في التوجيه المهني والتعليمي في هذه المرحلة بوجه الخصوص. فيجب عليهما الاهتمام بالبرامج والأنشطة التي تسعى إلى إدراك الذات ونشر مفاهيم النمو المهني وتوعية الطلاب بأهمية العمل في المجتمع وتطوير المعرفة عن المهن المختلفة والعوامل التي لها علاقة بالاختيار المهني وتنمية مهارات اتخاذ القرار، وذلك بهدف مساعدة الطفل بالاهتمام بنوع الدراسة الذي يلائمه حتى يتوفر له قدر كاف من التوافق الشخصي والاجتماعي يؤدي به إلى زيادة الرضا عن العمل المدرسي أو المهني من ناحية وإلى رفع مستوى كفاءته من جهة أخرى. وعلى كل فرد يشعر أن لديه مفهوم خاطئ عن ذاته متأثرا بعوامل بيئية غير سوية أو ضغط أسري أو اجتماعي أدى إلى اختيارات مهنية غير صحيحة أن يلجأ للإرشاد المهني لإعادة اكتشاف ذاته وخصائصها وتصحيح مساره المهني وذلك في أي مرحلة من مراحل العمر.