تعلم كيف نتعامل مع الذكريات المؤلمة؟
تعلم كيف نتعامل مع الذكريات المؤلمة؟
“لا يبقى في الذاكرة سوى ما نريد نسيانه”
ربما كلمة أو عبارة قصيرة تثيرنا لأن نكتب عنها سطور وصفحات، كما هو الحال مع الاقتباس السابق لدوستويفسكي، فهل هذا ما يجب أن يحدث أم أن النتيجة تعتمد على مجهوداتنا كأشخاص!
حسنًا عزيزي؛ ودون الخوض في مقدمات لا تعنينا الآن بشئ إلا أن ما أعلمه جيدًا بأن الكثيرين إن لم نكن جميعًا نعاني من تراكم لبعض الذكريات والأحداث المؤلمة، التي مهما حاولنا تجاهلها تظل عالقة بأذهاننا إلى الأبد كما لو أنها سجن العقل الذي يبقيه مقيدًا عند تلك اللحظات الموجعة.
ما وراء الذكريات وكيفية عملها
قبل هذا الوقت من القرن الحادي والعشرين، توصل العلماء إلى فهم الآليات التي يعمل بها الدماغ بالنسبة لمن يعانون من فقدان الذاكرة ومحاولة استكشاف الجديد من الأدوية التي تحميهم من الأمر، ولكن الآن في إطار جديد ومختلف، فقد بدأ العلماء طريقهم في فهم العملية المعقدة للذاكرة، ولكن لا يزال هناك الكثير من الأمور الخفية التي لا نعلم لها أسبابًا، بما في ذلك إصابة بعض الأشخاص باضطراب ما بعد الصدمة نتيجة صدمات خطيرة مروا بها في مراحل حياتهم المبكرة وعدم حدوث هذا للبعض الآخر.
غالبًا ما تخلف تلك الذكريات السيئة للأفراد جروحًا غير مرئية، قد تنمو مع تقدم العمر وتبقى إلى الأبد. وتتبع هذه في نهجها اصطلاح “كل شيخ وله طريقته” هكذا هو الحال في عالم الذكريات، حيث تعمل كل ذكرى بطريقتها الخاصة في تواجدها واستعادتها، وربما هو السبب في تذكرنا الأحداث المغضبة لنا طوال فترة حياتنا ونسيان الأمور الطيبة المحببة إلينا.
الأوكسيتوسين أو ما يُسمى بهرمون الحب وعلاقته باستعادة الذكريات
ربما حتى وقت قراءتك لهذا المقال قد يكون كل ما تعرفه عن هرمون “الأوكسيتوسين” أنه أحد هرمونات الحب وله دور في عمليات انقباض الرحم أثناء الولادة، ولكن زيادة على هذا فإن الدراسات توضح بأن الأوكسيتوسين يلعب دورًا مهمًا في تكثيف ذكرياتنا المؤلمة بدلًا من محوها، وربما ما نتعرض له من أحداث عنيفة هو المحفز لإطلاق هذا الهرمون وتسببه في زيادة استعادتنا لتلك الذكريات.
هناك دراسات تشير أيضًا إلى قدرة الأوكسيتوسين على تقوية الذكريات الاجتماعية السيئة، واستمراريتها لفترات أطول من الزمن، بما يثير علامات الخوف والقلق لدينا، ومن هذا المنطلق؛ فإن ما نتعرض له من القلق الاجتماعي المرتبط بمجريات الأحداث المؤلمة يعتمد بشكل كبير على مستويات ذلك الهرمون التي تصل إلى الدماغ وعلاقتها بكيفية تشفير المرء للجزء السيء من شريط الذكريات.
تشير الأبحاث والدراسات أيضًا إلى حقيقة أن الذكريات السيئة لا تُمحى بشكل كلي، ولكنها تُخزَّن في مكان ما داخل الدماغ وبشكل لا يمكن الوصول إليه إلا أنها تعود مرارًا إذا واجهت محفزًا ما، كما تزيد حيويتها نتيجة التداخل مع المشاعر السلبية التي تتملك تفكير المرء آنذاك، كذلك فإن تلك الذكريات النابعة من الصدمات المفاجئة والأحداث الأليمة تظل عالقة بنا لفترات أطول إذا لم يأخذ الإنسان طريقه في محاولة النسيان، وهو ما ينقلنا للتالي.
المحفزات المثيرة للذاكرة
ربما ترجع استعادة الذكريات إلى بعض المحفزات، وتحديدنا لأكثر هذه المحفزات شيوعًا هو ما يمكننا من السيطرة على الأمر، فمثلًا؛ قد تكون بعض الروائح أو مرورك بشارع ما أو حتى الاستماع لأغنية معينة هو ما يثير تلك الذاكرة السيئة، فهذه كلها بمثابة إشارات ترغم العقل على العودة إلى عالمه القديم وتذكر ما حدث في كل مرة، لذا؛ فتجنبك لمثل هذه المحفزات يمكّنك من إبقاء ذاكرتك متجنبَّة لهذه الأحداث المؤلمة في كثير من الأحيان وربما أنها تتلاشى تمامًا نهاية الأمر.
بالطبع، ليست ظروفنا واحدة، حيث لا يمكن للبعض تجنب تلك المحفزات المثيرة للذاكرة، فهناك من لا يستطيع تغيير طريقه للعمل أو التوقف عن سماع أغنيته المفضلة وأكثر من هذا، وفي هذه الحالة فإن وعيك الكامل بما يثير الأفكار السلبية ومحاولة استبدالها بأخرى إيجابية أو التركيز عما يحدث ببيئتك الحالية هو ما يكسر الرابطة بين المحفز والذاكرة السيئة، بدرجة قد تخفيها تمامًا يومًا ما.
اترك الذكريات تأتي كما هي
على الجانب الآخر؛ عندما نستعيد بعض الذكريات، فإننا نتجنب التفكير فيها على الفور، ولكن محاولتنا هذه قد تنعكس علينا بشكل سلبي لأن تعمدنا إخماد تلك الذكريات قد يزيد من قوة تواجدها بأذهاننا، لذا؛ الأفضل لك أن تترك هذه الذكريات تتدفق بصورتها الكاملة، فقط استمر في التفكير، ففي النهاية عندما تفعل هذا سيتوقف تفكيرك في الأمر كثيرًا ولن يكون مؤلمًا لك بعد الآن.
لكن ماذا لو فشل الأمر، وزادت تلك الخفايا المؤلمة من ثقل الذكريات؟!
فقط راقب انفعالاتك ومشاعرك عند التذكر المتكرر، إذا رأيت أن التفكير المتعمد بالذكريات السيئة يضر أكثر مما ينفع، قم بممارسة المشي لمسافات طويلة أو أي تمارين أخرى، ركز على حقيقة أن الحدث بات في الماضي وانتهى، فلم يعد هناك من يجرحك ولا يوجد موقف صعب عليك تحمله، تجنب أن تكون طريقة تفكيرك نوعًا من الهوس المرتبط بالذاكرة.
استبدال المعلومات من أجل إصدار جديد
لنتفق أولًا على أن الذاكرة تتغير حتى ولو قليلًا، ففي كل مرة نتذكر شيئًا ما لا يكون بصورته الأولية، ومن هذا المنطلق فإنه يمكن لحالتنا الواعية استغلال الدماغ لإجراء بعض التعديلات على الفجوات الصغيرة بالذاكرة السيئة من خلال استبدالها بمعلومات مختلفة، بما ينتج لنا إصدارًا جديدًا لذاكرة أقل ضررًا.
على سبيل المثال إذا كانت ذكرياتك السيئة تتمثل لك في صورة حزن وألم، فحاول إعادة التخيل بشكل آخر، تذكر ما شعر به الآخرون لأجلك وما فعلوه للوقوف بجانبك، وحينها ستتغير هذه الذكرى عند استحضارها مرة أخرى، ربما لن تتحول من كونها حزينة ومؤلمة إلى ذكرى سعيدة، ولكنها حتمًا ستتوقف عن إيذائك.
ركز على النقاط الإيجابية داخل قصتك الخاصة
تعود دائرة الأفكار التي لا تنتهي داخل أدمغتنا إلى ازدواجية عالم خبراتنا وتخيلاتنا، وعلى الرغم من انخراط أدمغتنا بأماكن يصعب الخروج منها، إلا أننا نستطيع التحكم فيها بشكل كامل. فإذا وجدت نفسك محاصرًا بما يؤلمك، فلا تمنح ذاكرتك السيئة الوقت الكافي لذلك، درب عقلك على التفكير في الأمور الإيجابية بما يقلل توترك وحتى لا تقع فريسة لحالتك المزاجية.
ربما ما تتذكره الآن عرضك التقديمي لشركتك الناجحة، وتعثرك أثناء ذلك أمام الحاضرين وما شعرت به من إحراج شديد، فبدلًا من التركيز على هذا، قم بإقران هذه الذكرى مع الوقت الذي أبليت فيه حسنًا وما حصلت عليه من تصفيق ومديح، حينها لن تضطر إلى إرهاق نفسك أكثر من اللازم.
الانخراط في الأعمال والانتباه لأشياء جديدة
قد يكون التركيز على الماضي هو ما يدفعنا لتوقع مستقبل أسوأ في حين أن هذا القلق يرجع لأشياء لا شأن لنا بها ولا يمكننا تغييرها بأي شكل كان، كما أن الفراغ يعيد أصحابه بشكل مستمر إلى الذكريات الأليمة، لذا؛ خذ الوقت الكافي للانخراط في الأنشطة اليومية، ركز على الأحداث من حولك من خلال الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة التي لم تكن تجذب انتباهك من قبل، فكل ذلك يبقي الدماغ منشغلًا باللحظات الحالية.
بالفعل هناك من الأشخاص من يستطيعون ضبط ما يفعلونه، حيث يلجأ هؤلاء في كثير من الأحيان إلى تكرار بعض الكلمات التي تمنعهم من الانجراف نحو ما لا يريدون. بالمثل يمكنك أيضًا ممارسة التأمل، فهو لا يجعلنا فقط نعايش الحاضر ونركز عليه، بل إنه يساعدنا أيضًا على التحرر من مشتتات الانتباه وتحسين الحالة المزاجية بشكل عام.
تغيير الروتين من أجل ذاكرة جديدة
تكويننا لذكريات جديدة هو ما يساهم أيضًا في تلاشي الأخرى السيئة مع مرور الوقت، ويمكنك ذلك من خلال قضاء أوقات سعيدة مع الأشخاص الذين تستمتع برفقتهم، وإذا كنت من هواة السياحة والسفر، فحاول القيام برحلات إلى أماكن لم تقم بزيارتها من قبل، أو استكشاف ما لم تذهب إليه في مدينتك بعد.
وإذا كانت حالتك المادية تعيقك من القيام بمثل تلك الجولات وخاصة في الوقت الراهن، فالأمثل هو تغيير الروتين اليومي كتجربة الذهاب إلى مطعم جديد، أو التحدي بطهي وجبات جديدة، أو قراءة كتاب مفيد، فقط فرغ طاقتك في فعل أشياء حماسية تبقي عقلك مزدحمًا وبعيدًا عن تأثير الماضي.
صحتنا العامة ودور المعالج النفسي
كثيرًا ما ننسى صحتنا النفسية والجسدية وسط زحمة الأفكار والذكريات، ولكن صديقي حصولك على قسط كافٍ من النوم، واتباع نظام غذائي متوازن يضم الفاكهة والخضراوات الطازجة والدهون الصحية والبروتينات الخالية من الدهون، وممارسة التمارين الرياضية يضمن لك قطع أشواط بعيدة عن العيش داخل دائرة الذكريات السيئة.
لكن ماذا لو لم يجدي الأمر مع كل ما سبق ذكره!
حسنًا؛ لا مانع في هذه الحالة من التحدث مع المعالج النفسي، حيث ينصحك بعض هؤلاء بالتحدث عن كل ما مررت به بشكل تفصيلي مرة أو مرتين في الأسبوع، بينما يحث البعض الآخر على كتابة قصتك وسردها أثناء الجلسة العلاجية، بما يساعدك على التعافي والحصول على الاتجاه الصحيح للأفكار، إضافة إلى تقديمهم المشورة بطرق تجدد نظرتك لحياة أفضل.
بطبيعة الحال إن ما نتعرض له من تجارب مؤلمة أمر لا مفر منه، وفي اعتقادي أن ما يؤرقنا ليس تلك الأحداث المتعلقة بالتجربة وإنما هو ردود أفعالنا وشخصياتنا خلف كواليس الأحداث. وحقًا لا أظن أحوالنا مخزية لهذه الدرجة التي تجبرنا كأفراد إلى اللجوء للوحدة والشعور باليأس، فلربما تلك الصعاب هي ما تجعلنا أقوى، هي ما تجعلنا ممتنين للحظاتنا السعيدة، بالتأكيد هناك جانب مضئ في كل ما نمر به!