بعيداً عن الرياضيات البحتة ما هي الهندسة الرياضية؟
هل تستمتع بالرياضيات وتشعر بأنك ترغب في استخدامها لحل مشاكل العالم الحقيقي الهامة؟
جميعنا نعلم أن الهندسة المدنية تهتم بالبناء أما الهندسة المعمارية فتهتم بتصميم البناء وشكله ولكن هل سبق لأحدكم وأن سمع بالهندسة الرياضية !
لا أتوقع ذلك فهذا المجال غير موجود لدينا في سوريا أصلاً ولكنه في الحقيقة موجودٌ في الخارج إذاً لنتكلم قليلاً عنه…
إن الهندسة الرياضية هي فن تطبيق الرياضيات على المشاكل المعقدة في العالم الحقيقي، فهي تركز على الرياضيات وتطبيقاتها حيث تجمع بين النظريات الرياضية والهندسة العملية والحوسبة العلمية لمواجهة التحديات التكنولوجية.
ففي السنوات الأخيرة كان هناك نمو غير عادي في تطبيق الرياضيات بالمجالات الصناعية والتكنولوجية ومجالات الإدارة والتمويل وغيرها من المجالات حيث قام علماء الرياضيات الهندسية بتطوير وتطبيق تقنيات رياضية وحسابية متقدمة لفهم هذه المشاكل.
فالرياضيات الهندسية أو ما تدعى بـ “الهندسة الرياضية” هي فرعٌ إبداعي من فروع الرياضيات التطبيقية تتجاوز الحدود التقليدية فهي تركز على الرياضيات وتطبيقاتها ضمن نطاق واسع من التطبيقات الهندسية والعلمية والصناعية والاقتصادية فالرياضيات هي التكنولوجيا الخفية وراء معظم جوانب الحياة العصرية.
و بما أن الهندسة عموماً هي فن تهيئة وتحسين بيئتنا بشمولها للتخطيط والتصميم والبناء والتقييم ومراقبة الجودة إلا أن أياً من هذا لن يكون ممكناً من دون الرياضيات، فالهندسة الرياضية هي جوهر جميع فروع الهندسة من هندسة الطيران والإلكترونيات والهندسة الميكانيكية إلى علوم الحاسب فمع تطور الهندسة والرياضيات تتشكل الأسس المشتركة لجميع الاختصاصات الجديدة.
النمذجة الرياضية وارتبطها بالهندسة الرياضية
تعتمد الهندسة الرياضية بالأساس على النمذجة الرياضية فهي المهارة الأساسية التي يجب أن يتحلى بها المهندس الرياضي فالنمذجة عبارة عن فن لا يمكن اتقانه أكاديمياً فقط بل يتم اكتسابه عبر التمرس و الخبرة و حل العديد من المشكلات، ويمكننا تعريف النمذجة الرياضية بأنها تطبيق الرياضيات في معالجة المشاكل التي نواجهها في حياتنا من خلال تمثيل أي مشكلة واقعية إلى نموذج رياضي (تحويل المشكلة إلى مسألة رياضية) ثم التعامل مع هذا النموذج وحل تلك المشكلة باستخدامه مع اختبار الحلول على المشكلة الواقعية لاختيار أفضلها فهي تتطلب مهارات تفكير عليا لتحويل المشكلات الحياتية إلى نماذج رياضية ثم حلها والتأكد من صدق تلك النماذج وتعميمها.
كما تساهم النمذجة الرياضية في تنمية التفكير و تكمن أهميتها في كيفية تطبيق النظريات الرياضية في الواقع مساهمةً بذلك بتقليص الفجوة بين ما هو نظري وما هو تطبيقي.
أمَّا (آنغ – 2010) فقد اختصر هذا التعريف عن طريق الرسم التوضيحي الآتي:
أهمية الحوسبة واستخداماتها في الهندسة الرياضية
يتعرض طلاب الهندسة الرياضية خلال دراستهم إلى البرمجة بشكل كبير ولكنهم لا يتخرجون فقط مع معرفة بلغات البرمجة القياسية مثل C و ++C و JAVA و Matlab ولكنك ربما تراهم أيضاً يكتبون برامج لتشخيص أمراض الرئة تلقائياً أو ابتكار خوارزميات جديدة لاستكشاف وفهم النظم المختلة !
فاليوم حتى وإن كان المنتج لا يحوي على جهاز كمبيوتر فيمكنك التأكد بأنه غالباً ما تم استخدام جهاز كمبيوتر أخر لتصميمه ولكن الشيء الذي ربما قد يفوتك أن كل هذه الحواسيب تحتاج للرياضيات، من خورازمية تصحيح الأخطاء في هاتفك المحمول إلى برامج تحليل الضغط التي تتيح للمهندسين تصميم الجسور العملاقة أو الطائرات، فالحوسبة العلمية موجودة بكل مكان بالعالم الحديث.
فالحوسبة يجب أن تكون جنباً إلى جنب مع الخبرة في التحليل الرياضي والوعي بالنظم الهندسية لدى المهندس الرياضي.
الهندسة الرياضية وفرص العمل
يتمتع خريجو الهندسة الرياضية بخبرة عالية في النمذجة وتحليل البيانات والمحاكاة العددية، وهم قادرون على تطوير الخوارزميات و البرمجيات وتصميم نماذج أولية افتراضية لنظام أو منتج ما واستخدام هذه التقنيات في التطبيقات الصناعية والاقتصادية والطبية… من أجل محاكاة وحل المشاكل المعقدة في مختبرات الأبحاث أو حتى في سياق العمل حيث تتطلب الصناعة الآن عدداً متزايداً من خريجي الهندسة الرياضية الذين يمكنهم تطبيق الرياضيات في المواقف العملية من أجل استخدام مهارتهم المنطقية لصياغة المشاكل ومهارتهم في النمذجة من أجل ترجمة هذه المشاكل إلى مصطلحات رياضيات ومهارتهم التقنية لكتابة برامج الكمبيوتر وفهمهم الرياضي للتساؤل وتفسير النتائج ومعرفتهم الهندسية من أجل تنفيذ الحل، فيمكنك العثور عليهم في مجموعة واسعة للغاية من المهن، من تصميم الجيل القادم من سيارات Formula One إلى العمل في تطوير أحدث الروبوتات، من إدارة أعمالهم الخاصة وإنشاء سيارات القيادة الذكية إلى تطوير مؤشرات أسهم مبتكرة لكبرى المؤسسات المالية العالمية، فإن الخريجين ذوي المهارة التقنية والمنقولة “المهارات التي يمكن استثماراها لخدمة العديد من جوانب الحياة” هم قادرون على لعب دور قيادي وإبداعي كرياضيين ومهندسين محترفين في المجالات الصناعية ومجالات البحث الأكاديمي وغيرها من المجالات، وغالباً ما يتطلب من المهندسين الرياضيين العمل في فريق وذلك يعود لضخامة المشاكل الحديثة التي يتم مواجهتها في العلوم والتكنولوجيا بحيث لا يمكن معالجتها من قبل فردٍ واحد.
ويعتبر اختصاص الهندسة الرياضية حديث نسبياً ومن الجامعات التي تقدم شهادات في الهندسة الرياضية:
- جامعة بريستول في المملكة المتحدة (الإجازة في الهندسة الرياضية)
- جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا (ماجستير العلوم في الهندسة الرياضية)
وبحسب جامعة بريستول البريطانية التي تمنح شهادة إجازة في الهندسة الرياضية فإنه يتم توظيف أكثر من 90% من خريجيها خلال الأشهر الستة الأولى من مغادرتهم للجامعة كما أن أغلب الطلاب لديهم يحصلون على عروض مؤكدة للعمل قبل أن يكونوا قد أنهوا السنة الدراسية الأخيرة لهم !
تاريخ الهندسة الرياضية
تكونت الهندسة الرياضية في معظمها من التحليل التطبيقي فهي تجد أبرز أساساتها التاريخية في الفروع الرياضية التالية: المعادلات التفاضلية، التحليل الحقيقي و المركب (بما في ذلك المتجهات وتحليل التنسور “الموتورات/الممتدات”)، نظرية التقريب Approximation theory (بمعناها الواسع لتشمل طرق التقارب والتغاير والاضطراب وأيضاً التمثيل Representation “من هذا الفرع أتى مفهوم البرمجة غرضية التوجه” والتحليل العددي)، تحليل فورييه، نظرية الكمون potential theory، الجبر الخطي، الاحتمالات التطبيقية.
حيث تم ربط هذه المجالات على نحو وثيق في تطوير قوانين نيوتن في الفيزياء والفيزياء الرياضية في تلك الفترة، حتى أنه منذ أوائل القرن العشرين كانت تدرس مواضيع مثل ميكانيكا الكم في قسم الرياضيات التطبيقية في الجامعات الأمريكية وربما لا تزال تدرس ميكانيكا الموائع في الرياضيات التطبيقية مثلما تدرس في أقسام الهندسة.
وقد أدى نجاح أساليب الحواسيب الرقمية الحديثة والبرمجيات إلى ظهور الرياضيات الحاسوبية والعلوم الحاسوبية والهندسة الحاسوبية التي تستخدم أحياناً الحوسبة عالية الأداء لمحاكاة الظواهر وحل المشاكل في مجال العلوم والهندسة.
أمثلة على بعض تطبيقات الهندسة الرياضية
وأخيراً لنأخذ أمثلة سريعة على ما يمكننا الاستفادة من الهندسة الرياضية، كما نعلم أن النظم الهندسية والتي تبدو واضحة من أجل التصميم قد تظهر سلوكاً غير متوقع وغير مستقر عند البناء وهنا يأتي دور الهندسة الرياضية فلنأخذ مثالاً على جسر يتكون من هيكل تعليق بسيط ولنقم باختبارات على نماذج مصغرة للجسر حتى يظهر الجسر قوياً ومستقراً، ولكن عند بناء هيكل حقيقي قد ينتج تمايل غير مستقر ! إن الديناميكيات غير الخطية ورياضيات الفوضى يمكن أن تساعدنا على التنبؤ بمثل هذا السلوك وتصحيح التصميم قبل أن يبداً البناء.
تقنيات مشابهة يمكن أن تمكن عالم الرياضيات على فهم ظواهر متنوعة مثل الفوضى في ليزر أشباه الموصلات أو التنبؤ بالطقس أو حتى إرسالة مركبة فضائية إلى الشمس فقط باستخدام كمية ضئيلة من الوقود !
لنأخذ مثال أخر على ظاهرة الاحتباس الحراري إن هذه الظاهرة تسبب مشاكل مدمرة في جميع أنحاء العالم، ففي السابق كانت البلدان القاحلة تعاني من فيضانات هائلة في حين تواجه البلدان الخصبة الجفاف الغير متوقع، و لكن العلماء قد تمكنوا من خلال تقنيات الذكاء صنعي من أخذ نماذج لصور من الأقمار الصناعية وبيانات هطول الأمطار ومن ثم دمج هذه المعلومات مع المعرفة الجيولوجية المتقدمة والنماذج الرياضية لأحواض الأنهار للتوقع بالموعد المرج للفياضانات.
كما تمكننا الهندسة الرياضية من نمذجة مستويات المياه في السدود الكهرومائية وتطوير نظام التلفزة الرقمي ونمذجة مستويات السكر في الدم لدى مرضى السكري وتقدير متطلبات الطاقة لمحرك الأقراص في نظام الراداد بالإضافة للتحقق من تآكل محركات الديزيل.
كما أن محركات البحث على الإنترنت، توقعات الطقس والفيضانات، التصوير الفوتوغرافي، الأمن المصرفي بالإضافة للعديد من التطبيقات التكنولوجية جميعها تسيرها نماذج رياضية.