بحور الشعر العمودي: الضرورات الشعرية
الضرورات الشعرية
انتشرتْ بين الخاصّة والعامّة مقولة: ‹‹يجوزُ للشّاعرِ ما لا يجوزُ لغيره››، وهي تعني: أنَّ الشَّاعرَ يضطرُّ –أحيانًا- لضبطِ الوزنِ على مخالفة بعض القواعد النّحويّة والصّرفيّة الّتي لا يُسمحُ للنّاثر تجاوزها، بشرط ألّا يُسرفَ الشَّاعرُ في تجاوزها. تُسمّى هذه الجوازات الضرورات الشعرية، هذه الضرورات منها ما هو مُستحسنٌ ومنها القبيح، وهي:
1. صرف ما لا ينصرف
كقولِ المُتنبّي، [من الوافر]:
وألقَى الشَّرْقُ منها في ثِيابي
دَنانيرًا تفُرُّ مِنَ البَنَانِ
وقولهِ، [من البسيط]:
نامتْ نواطيرُ مصرٍ عنْ ثَعالِبها
فقد بشِمن وما تفنَى العناقيدُ
2. منعُ صرفِ ما ينصرف
ضرورةٌ قبيحة، كقولِ العبّاس بن مرداس، [من المُتقارب]:
وما كانَ حصنٌ ولا حابسٌ
يفوقان مرداسَ في مجمعِ
قصَّةُ هذا البيت أنّ العبّاس بن مرداس عاتب النّبي –صلّى الله عليه وسلّم- حين أعطاه أربعةً من الإبل أثناء عطاياه للمؤلّفة قلوبهم (من دخلوا الإسلام من دون إيمانٍ راسخٍ).
3. قصرُ الممدودِ
كقولِ المُتنبّي، [من المتقارب]:
ولي هِمَّةٌ فوقَ نَجْمِ السّما
ولكنَّ حاليَ تحتَ الثَّرى
قصرُ السّماء على السّما.
وقولِ كُثيِّر عزّة، [من الطّويل]:
وما كنتُ أدري قبلَ عَزَّة ما البُكا
ولا مُوجِعَاتِ القَلبِ حتَّى تَوَلَّتِ
قصرُ البكاء على البكا.
4. مدُّ المقصور
(ضرورةٌ قبيحة)، كقولِ الشّافعي، [من الوافرِ]:
سيُغنيني الّذي أغناكَ عنِّي
فلا فقرٌ يدومُ ولا غناءُ
مدُّ غنى إلى غناءُ.
5. إسكانُ الواوِ والياءِ المفتوحتينِ
كقولِ عامرِ بن الطّفيل [من الطّويل]:
فما سوَّدتني عامرٌ عن وِرَاثةٍ
أبى اللهُ أنْ أسْمُوْ بأمٍّ ولا أَبِ
وقولِ عنترة بن شدّاد، [من البسيط]:
إنّ الأفاعيْ وإنْ لانَتْ مَلامِسُهَا
عِندَ التّقلُّبِ في أنيابِها العَطَبُ
6. تسكينُ المتحرّكِ وتحريكُ السّاكنِ
كقولِ عليّ بن أبي طالب، [من الطويل]:
يَعزُّ غنيُّ النّفسِ إنْ قلَّ مالُهُ
ويَغنَى غنيُّ المالِ وَهْوَ ذليلُ
الشَّاهدُ تسكينُ الهاء من هُوَ.
وقولِ المتنبي [من البسيط]:
وَمِن هَوى الصِّدقِ في قولي وعادتهِ
رَغبتُ عن شَعَرٍ في الرَّأسِ مَكذُوبِ
7. جعلُ همزةِ القطعِ وصلًا، وهمزةِ الوصلِ قطعًا
مثالُ الأول كقول أبي تمّام [من الطّويل]:
لَوَ أنَّ صُدورَ الأمرِ تظهرُ للفَتى
كأعقابهِ لم تَلْقَهُ يَتندَّمُ
الشَّاهدُ وصلُ همزةِ أنَّ لضرورة الشّعر وتُنقل حركتها إلى الواو قبلها وتُلفظُ لَوَنَّ.
ونحو [من الطّويل]:
ومنْ يصنعُ المعروفَ من غيرهِ أهله
يُلاقي الّذي لاقى مُجيرُ أمِّ عامرِ
وصلُ مُجيرُ بأم عامرِ بدل قطعها.
ومثال الثّا��ية كقول قيس بن الخطيم [من الطّويل]:
إذا جاوزَ الإثنَيْنِ سرٌّ فإنَّهُ
بِبَثٍّ وتكثيرِ الوُشاةِ قَمِينُ
الشَّاهدُ قطعُ همزة الاثنين وهي همزةُ وصلٍ.
وقولِ جميل بن مُعمّر (جميل بُثينة)، [من الطّويل]:
ألا لا أرى إثنينِ أحسنَ شيمةً
على حدَثانِ الدَّهرِ منِّي ومن جُمْلِ
الشَّاهدُ قطع همزة اثنين والأصل همزة وصل.
8. تنوينُ المُنادي
كقولِ الأحوص، [من الوافرِ]:
سلامُ اللهِ يا مَطَرٌ عليها
وليسَ عليكَ يا مطرُ السّلامُ
قصَّةُ هذا البيت أنَّ الأحوص بن محمد كان يهوى أخت امرأتهِ، الحسناء، ويكتم ذلك وينسب بها ولا يفصح باسمها، فتزوّجها رجلٌ من بني تميمٍ يُقال له مطر التّميمي، وكان قبيحًا دميمًا، فأنشد ما أنشد.
وقولِ عُديّ بن ربيعة (المُهلهل، الزّير، أبو ليلى)، [من الخفيف]:
ضربتْ صدرَها إليَّ وقالتْ:
يا عُديًّا لقدْ وقتك الأواقي
9. تخفيفُ المُشدَّدِ وتشديدُ غير المُشدَّدِ
مثالُ الأوّل –وهو مقبول- كقولِ الشّاعر، [من المُتقارَب]:
فقالوا: القصاصَ وكانَ التَّقا
صُ حقًّا وعدلًا على المسلمينا
مثالُ الثّانية –وهو قبيحٌ مرذول-، [من البسيط]:
أهانَ دمَّكَ فرغًا بعد عزَّته
يا عمرو بغيك إصرارًا على الحسَدِ
10. حذفُ حرفٍ من الكلمةِ
كقولِ طرفة بن العبد، [من الطّويل]:
فإن كُنتَ لا تسطيع دفع منيّتي
فدعني أُبادِرُها بما ملكت يدي
11. فكُّ الإدغام
كقولِ أبي النّجم بن قُدامة، [من الكامل]:
الحمدُ لِلَّهِ العليِّ الأَجْلَلِ
أنتَ مليكُ النَّاسِ ربًّا فاقب��ِ
وفيه مُخالفة للقياس النّحوي والصّرفي الّذي يقتضي إدغام كلمة الأجلَلِ بحرفٍ مُشدَّدٍ لتكون الأجَلِّ.
12. حذفُ الفاء من جواب الشّرط
كقولِ كعب بن مالك، [من البسيط]:
من يفعل الحسنات اللهُ يشكرها
والشَّرُّ بالشرِّ عند اللهِ مثْلانِ
يجبُ اقتران جواب الشّرط الله بالفاء لتكون فالله.
يوجد ضرورات شعريّة أخرى، وتصنيفاتٌ لكلّ مجموعة سواء بأحكامها أم ترتيبها أم بحسنها وقبحها، إنّما المذكور آنفًا أشهرها.
في نهاية الأمر، الضّرورة تعني الضّعف؛ لأنّ اللغة العربيّة واسعة بمفرداتها ومشتقّاتها، وكلّما ابتعد الشّاعرُ عن اللجوء إلى الضرورات الشعرية كان قديرًا.