الإدراك المبكر لمتطلبات سوق العمل
نسمع كثيرا: “لا يوجد وظائف!”، “تقدمت على أكثر من 10 جهات ولم يصلني رد من أي منها!”، “أنا خريج من تخصص مهم ولكن لم أجد أي فرصة تناسبني!”. هل هذه التعليقات صحيحة ومبررة؟؟
ربما، ولكننا هل نعرف الأسباب الحقيقية وراء ما نمر به من صعوبات للحصول على الوظيفة المناسبة؟
تعد المواءمة بين طموحاتنا والواقع أمرا شديد الأهمية. بكل بساطة، كلما اتسعت الفجوة بين طموحاتنا ومجهوداتنا، وبين واقع ومتطلبات سوق العمل، كلما ابتعدنا عن النتائج التي نتمناها كأفراد. لهذا يتعين على الباحث عن النجاح، أن يعد مبكرا لفهم سوق العمل وتحركاته وفهم عناصره الرئيسة وكيف تؤثر هذه العناصر سلبا أو إيجابا؛ ومن ثم يستطيع من يبحث عن النجاح توظيف هذه المتغيرات – التي تنعكس في مجموعة من التحديات أو الفرص – لمصلحته ليحوز على النتائج الجيدة بفاعلية عالية ومؤثرة. ومن المفهوم أن الوعي المسبق لتحديات التجربة يحسن النتائج.
الإدراك المبكر يختص بالوصول إلى مستوى فهم معين في الوقت المناسب (وهو ذلك الوقت الذي يسبق مرحلة اتخاذ القرارات المصيرية). لهذا نلاحظ أن المقصود هنا يدور حول ثلاث محاور جميعها تصب في سياق النجاح والتفوق المهني عند الباحث عن العمل. المحور الأول يختص بما يملكه الفرد من سمات وأفكار وأسس وقيم وطموحات فردية، والمحور الثاني يختص بالسياق والبيئة التي يعمل أو سيعمل فيها الفرد، والمحور الثالث يدور حول آلية وطريقة الربط بين المحورين الأول والثاني وتأثيرهما على خطط الفرد. بناء أحد المحورين بمعزل عن الآخر يصنع الفجوة التي تجعل التحرك أصعب والمواءمة قاسية والنتائج بعيدة عن التوقعات والطموحات.
المحور الأول: إدراك الذات
كيف يبدأ الفرد؟ باختصار، يبدأ بنفسه. الجزء الأهم هو الوعي بالواقع الشخصي أو ما يطلق عليه علماء النفس الوعي الذاتي أو إدراك الذات، وفي هذه المرحلة تتحقق ثلاثة أمور نستطيع التحكم فيها: الأهداف، التصورات والخطط. العملية هنا تراكمية تفاعلية، كلما تحسنت معطيات الوعي الذاتي، كلما رسخت أهدافنا وتصوراتنا وخططنا وأصبحت أكثر فاعلية. من المطلوب أن تحوز أهدافنا على عنصر مهم يعمل لتمكين بقية الأهداف، مثل وضع هدف يساعد في التنبه للمتغيرات، والتعلم عما يحصل حولنا، وهو سلوك فطري نلاحظه في الأطفال من بداية مراحل نموهم يشهد عليه فضولهم العجيب وطريقتهم في التعرف على العالم من حولهم وكيف يلمسون الأشياء وينظرون ويهتمون بكل جديد وغريب. هذه السمة الفطرية ممكن أساسي لحياة أفضل، ومن الطبيعي أن يطورها الفرد للنمو بطريقة عصرية تناسب عمره وعالمه من حوله. وهكذا، تشكل أهداف الشخص التمكينية سلاسل الربط مع المحور الثاني، أي البيئة من حولنا.
المحور الثاني: بيئة العمل الحالية أو المستهدفة
عند الحديث عن المحور الثاني (وهو بيئة العمل الحالية أو المستهدفة)، يتنامى إلى ذهن الفرد أحيانا أسرار سوق العمل الخاصة جدا والتي لا تتاح إلا لفئة قليلة من العامة، وهذا تصور غير صحيح. فهم متطلبات سوق العمل تعني أساسا فهم بعض الأساسات المؤثرة في تفاعلاته الكبيرة المعروفة. ومنها المعرفة المباشرة لبعض الأسس الاجتماعية والاقتصادية بشكل عام، ثم بعد ذلك لا بد أن يحافظ الفرد على التواصل مع قناة معقولة تنقل له تحديثات الواقع بطريقة محايدة موثوقة المصدر. وهذا يعني فهم ملامح الظروف الاقتصادية والتنموية المحيطة وكيفية تغيرها واستيعاب المتغيرات بدرجة معقولة التفاصيل. تمثل النقطة الأخيرة الدائرة الكبرى التي ربما لا نحصل منها على القشرة أو الإحساس المبدئي بواقع الأمر. ولكن بعد ذلك نستطيع البدء في تصغير الدوائر والدخول تفاصيل أعمق ولكن في نطاق أصغر يمكن التحكم به، يكون ذلك بالتعرف الجيد على القطاع الذي نعمل به أو المجالات التي نتصور أن نهبط في محيطها بعد التخرج أو الجهات التي تستطيع استيعابنا بناء على ما نختار من تخصص. والهدف الأخير من ذلك معرفة أي الوظائف والجهات والمجالات أنسب وأوفر بل والتي يمكن أن يتحقق من خلالها الإبداع والنجاح.
المحور الثالث: التصورات والخطط المهنية
ما هي التصورات والخطط المهنية التي نتحدث عنها؟ وما هي أفضل المصادر للمعلومات المهنية المحدثة خصوصا تلك المرتبطة بديناميكية سوق العمل وظروفه المتجددة؟ الربط بين المحورين يصبح أكثر إمتاعا عند الحديث عن التفاصيل.
لا بد أن يعي الشخص أن التصورات الإيجابية تنجم عن أسلوب التفكير الذي نصنعه بأنفسنا، وهذه التصورات هي ما يقود خططنا وأفعالنا. وبدءا من أول مراحل التعلم الرسمي وغير الرسمي يستطيع الفرد أن يؤثر على خططه وأفعاله ليخرج بقدر جيد من الاستعداد الشخصي المطلوب. وهذا يشمل مجموعة الاعتقادات والمهارات وطريقة التفكير التي يحتاجها لمواجهة الواقع. وهنا تحديدا تبدأ المفاضلة بين خيارات الاستعداد المتنوعة؛ لذا لا بد من أن يختار الشخص مسارا محددا وشهادات معينة وأسلوبا يثبت نجاحه عندما يعرض ملفه ويطرح نفسه كوحدة منتجة على مسؤولي التوظيف. ويعتمد هذا على فهمه واستيعابه لسوق العمل. ومن ذلك القراءة المتخصصة في التخصص والمجال المرغوب، والتنويع الثقافي لإدراك التفاعلات المحيطة (مثلا، المتخصص في تقنيات الصناعات البتروكيمياوية قد يهتم بتفاعلات أسواق النفط ومحركاتها السياسية والاقتصادية). وكذلك التفاعل الإيجابي مع الدوائر المهنية ذات العلاقة كلها تعد ضمن باقة الأدوات التي تمكننا من السيطرة على المحور الثاني. كما أن الاقتراب والتجاوب مع المؤسسات والجمعيات والمجموعات المهنية المتخصصة يعد أمرا بالغ الأهمية إذ أنه يفتح للشخص أبواب حقيقية على واقع سوق العمل، ويدخله هذا الباب من الزاوية الملائمة تماما. وهكذا يعد التنسيق والتناسق بين مجموعة العناصر أعلاه الطريق نحو إدراك واقع سوق العمل وتحقيق أفضل النتائج. وكل ما ماكنت الاستعدادات مبكرة، كل ما اقترب تحقق الفرص أكثر.